فلسطين في ألحان التراث: رحلة الصبر والمقاومة والحنين في الأغاني التراثية

في عمق ثقافة فلسطين، تتجلى أغاني التراث كنافذة تفتح على تاريخ غني بالصبر والمقاومة والحنين. تعبر هذه الأغاني عن تجارب الشعب الفلسطيني، وتحمل معها قصصاً مؤثرة عن المعاناة والصمود والتضحية. تأخذنا هذه الأغاني في رحلة عبر ذاكرة فلسطين، حيث تجسد روح المقاومة وتذكرنا بأهمية الثبات والأمل في وجه التحديات الصعبة.
ومنذ أكثر من قرن، كان الشعر الشعبي الفلسطيني أداة للتعبير عن مشاعر الشعب الفلسطيني وتجاربه. كتب هذه القصائد شعراء مجهولون، ارتجلوها في سياقات متنوعة، ولكن حفظتها قلوب النساء والرجال على حد سواء. أصبحت هذه القصائد سجلًا تاريخيًا ينقل حكايا الفلسطينيين عبر عقود من الزمن، وترنيمة للمقاومة تصاحب كل محطات صراعهم من أجل الدفاع عن أرضهم.
في مقدمة كتاب “دليل الأغنية الوطنية الفلسطينية، فكر ومقاومة”، يشير الباحث في التراث الشعبي حسن الباش إلى أهمية هذا التراث الموسيقي والشعري في توثيق الأحداث الوطنية. فقد أصبح هذا التراث أغنى من سجلات التاريخ الرسمي، حيث يعبر عن جوانب النضال والصبر والكرامة ورفض الظلم والاحتلال بشكل مباشر وشجاع

وتعبر أغاني التراث الفلسطيني عن مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك:

المقاومة: لا تخلو أغاني التراث الفلسطيني من روح المقاومة والتحدي للاحتلال والظلم. تشكل هذه الأغاني محفزاً للثورة والنضال، وتروي قصص المقاومة الباسلة ضد الاحتلال والظلم. تعكس هذه الأغاني إرادة الشعب الفلسطيني في الدفاع عن هويته وأرضه وحقوقه، وتذكرنا بأن الحرية لا تأتي إلا بالصمود والتضحية، مثال عليها أغنية عبي البارود:
عبّي البـارود للقايد عبّي البــارود
والحـبايـب تستنّـى على الحــدود
عبّي الإبريق للقايد عبّي الإبـريـق
والحـبايـب تستنّـى على الطـريـق
عبّي الرشاش للقايد عبّي الرشّاش
والحـبايـب تستنّـى على الحـراش



الحنين:
بينما تعبر أغاني التراث الفلسطيني عن الصبر والمقاومة، فإنها أيضاً تحمل روح الحنين والأسى إلى الأرض والماضي المفقود. تروي هذه الأغاني قصص الشوق والحنين إلى الوطن والمنازل التي تركت وراءها، وتجسد أحلام العودة واستعادة الحرية. تنقلنا هذه الأغاني إلى عوالم الذكريات والعشق لفلسطين، حيث تعزف على وتيرة الأمل والشوق للعودة والعيش بسلام في وطن حر، والحنين لمن فقد من الشهداء والأسرى.
مثل أغنية مين قال:
مين قال عمّي زيّ أبوي يكذب
وأبـوي حـنون ومحـنـتـه تـغـلب
ويام اليـتـامى وتحـزمي بالخـيط
وكوني صبورة على طلوع الغيط
مين قال خالي زيّ أبوي يكذب
وأبـوي حـنون ومحـنـته تـغـلب


الصبر:
في أغاني التراث الفلسطيني، ينبعث الصبر كرمز للقوة والصمود في وجه الظروف الصعبة. تعبر هذه الأغاني عن القدرة على التحمل والصبر في مواجهة الاحتلال والمحن، حيث تروي قصص الصمود والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني يومياً. تعزف الأغاني الفلسطينية الكثير من المقطوعات التي تعبر عن قوة الإرادة والتصميم على مواصلة الحياة رغم الصعوبات، مثال عليها أغنية يا صبر أيوب:
ع فلسطين خذني مَعك ع فلسطين يا ابن عمّي
اصبر على الجوع ولا أصبر على الهمّ
ع فلسطين خذني معك ع فلسطين يا حبيبي
ريتك يا ولفي من حظي ونصيبي

الحياة اليومية: تروي هذه الأغاني قصصًا عن الحياة اليومية للفلسطيني، مثل العمل والحب والزواج والحياة الاجتماعية.
فتروي أغاني التراث الفلسطيني قصص ملاحم يومية عاشها الفلسطينيون، وتختزل تلك القصص تجارب يومية جماعية من خلال الحديث عن تجربة فردية، مثل قصة الشاب مشعل. وهو شاب فلسطيني رفض التجنيد الإجباري في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. وقد كان مشعل فقيرًا، ولم يكن قادرًا على دفع المال الذي كان يعفيه من الخدمة العسكرية. لذلك، فر من التجنيد، وظل هاربًا حتى قبض عليه الجيش التركي، وأرسله إلى إحدى جبهات القتال البعيدة.
حيث جاءت الاغنية بكلماتها التالية مستوحاة من تلك القصة:
عالأوف مشعل أوف مشعلاني
مـاني تبلّيته هوّي اللي تبلّـاني
شفت واحد واقف جنب البركة
حاكيته عربي جاوبني بالتركي
نسوان تحكي والأطفال تبكي
مع مين نحكي تركي أو ألماني
شفت القانون جاي من بعـيد
حبّيـت أهرب مـا طلع بـإيـدي
قالّي الوثيقة ناولته مجيـدي
لطش المجيدي وقالّي أنت فراري

وعادة ما تعتمد أغاني التراث الفلسطيني على اللهجة العامية في شكل نصوص شعرية شعبية أو زجلية، وتحتوي على عدة ألوان أساسية من الغناء، أهمها:
• أغاني الأعياد والاحتفالات الدينية: مثل أغاني عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الميلاد.
• أغاني الحب والغزل: مثل أغاني العشق والهوى والغرام.
• أغاني الأفراح والأعراس والختان والميلاد: مثل أغاني الزفاف وحفلات الختان واستقبال المولود الجديد.
• أغاني الحماسة والحث على الجهاد: مثل أغاني الثورة والمقاومة ضد الاحتلال.
• أغاني السياسية والوطنية: مثل أغاني الاستقلال والوحدة العربية.
• أغاني الاستمطار: مثل أغاني طلب المطر من الله.
• أغاني المآتم والرثاء: مثل أغاني الحزن على الموتى.
• أغاني الروايات والقصص الشعبية: مثل أغاني عن الفرسان والبطلات.
• أغاني الرقص: مثل أغاني الدبكة والشعبي.
لكن هذا التقسيم قد تبعثر، ولا سيما بعد النكبة في العام 1948، فقد تشابكت تلك الألوان، واختلط المضمون النضالي بأغاني الحب والأعراس والمآتم والرثاء، فباتت في ثلاث مضامين وهي:
• المضمون النضالي: وهو المضمون الأكثر شيوعًا في أغاني التراث الفلسطيني، ويعبر عن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي ورفضهم للظلم.
• المضمون القومي: وهو المضمون الذي يعبر عن الانتماء الوطني الفلسطيني، ويدعو إلى الوحدة العربية.
• المضمون الاجتماعي: وهو المضمون الذي يعبر عن الحياة اليومية للفلسطيني، ويتضمن موضوعات الحب والزواج والحياة الاجتماعية.
أغاني التراث الفلسطيني هي نافذة على التاريخ والذاكرة الفلسطينية، فهي تشكل وثيقة تاريخية مهمة، تعكس خصوصية المرحلة التاريخية التي مرت على فلسطين. فهي تعبير صادق عن مشاعر الشعب الفلسطيني، ونابع من روح الأمهات والجدات الفلسطينيات. وقد صمدت هذه الأغنية أمام كل التحديات، بفضل تعليمها وحفظها ومزاولتها وتناقله من جيل إلى جيل، تعبر عن تجارب الشعب الفلسطيني وتحمل معها قصصًا مؤثرة عن المعاناة والصمود والتضحية. كما وتشكل مصدر إلهام للفلسطينيين، فهي تجسد روح المقاومة والأمل في وجه التحديات الصعبة.

كما ويستمر دور الأغاني الشعبية الفلسطينية في النضال حتى يومنا هذا. فالفنانون الفلسطينيون يواصلون إنتاج الأغاني التي تعبر عن القضية الفلسطينية، وتدعو إلى المقاومة. كما أن الأغاني الشعبية الفلسطينية تحظى بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين، حيث تساهم في تعزيز روحهم الوطنية، وتحفيزهم على الاستمرار في النضال.

Hide picture