يُعدّ ناجي سليم حسين العلي أيقونة الفن الملتزم، ورمزاً من رموز المقاومة الفلسطينية التي تخطت حدود الرسم لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي العربي والعالمي. لم تكن ريشة ناجي العلي مجرد أداة للتعبير الفني، بل كانت سلاحاً حاداً يُفصح عن معاناة شعب، ويفضح زيف واقع، ويُخلّد هوية. من طفولته المتشرّدة في مخيم اللاجئين إلى اغتياله الغادر، بقي العلي فنان الشعب بامتياز، وشاهداً حياً على أن الفن قادر على قلب الموازين وتحفيز الثورات.
من مخيم اللاجئين إلى ولادة فنان الثورة
ولد ناجي العلي عام 1937 في قرية الشجرة بالجليل الفلسطيني، قبل أن تقتلع نكبة عام 1948 عائلته من أرضها، ليلقى مصيره مع آلاف الفلسطينيين في مخيم عين الحلوة للاجئين جنوب لبنان. هناك، في أزقة المخيم الضيقة وبيوته المتواضعة، حيث تشكلت تجربته الأولى مع الألم واليأس والأمل، تفتحت موهبة الطفل ناجي. كان المخيم بمثابة الجامعة الحقيقية له، مدرسة علّمته مرارة اللجوء، قسوة الاحتلال، وصبر وثبات شعبه.
من هنا، أدرك العلي مبكراً أن فنه لن يكون ترفاً، بل ضرورة ملحّة، صرخة تُعبّر عن أولئك الذين لا صوت لهم. لقد كانت هذه الخلفية العميقة، في قلب معاناة اللاجئين, هي الوقود الذي أشعل ريشة المقاومة لديه. لم تكن بداياته سهلة، فقد مرّ بتجارب متنوعة من العمل اليدوي إلى التجوال، قبل أن يكتشف رسام الكاريكاتير الفلسطيني غسان كنفاني موهبته الفذة عام 1961. كانت تلك اللحظة نقطة تحول حاسمة، حيث نشرت له أولى رسوماته في مجلة “الحرية”، لتبدأ رحلته الفنية التي سرعان ما تجاوزت حدود الصحف لتدخل قلوب الملايين.
ريشة المقاومة: فن يُحاكي الوجع ويفضح الزيف
لم تكن ريشة ناجي العلي تتلون بالألوان الزاهية، بل كانت ترسم بالأسود والأبيض، بلوني الحقيقة والظلم، لتجسّد الواقع الفلسطيني في أبسط أشكاله وأعمق معانيه. انطلقت أعماله من الواقع المرير، مركزة على الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال وجرائمه الممنهجة، ولكنها لم تتوقف عند ذلك.
لقد اتسع نطاق نقده ليشمل الأنظمة العربية المتواطئة أو المتخاذلة، وقيادات الثورة الفلسطينية التي رآها قد ابتعدت عن نبض الشارع وهموم الناس البسطاء. كان أسلوب العلي يتميز بالبساطة الممتنعة والعمق الفلسفي، فكل خط في رسوماته كان يحمل معنى، وكل شخصية كانت تجسيداً لحالة مجتمعية. لم تكن رسوماته مجرد صور عابرة، بل كانت مقالات بصرية مكثفة، تتحدى الصمت، وتكسر المحظورات، وتنبض بالحقائق التي يخشى الكثيرون قولها.
لقد استطاع ناجي العلي ببراعة أن يحوّل الألم الفردي إلى قضية جماعية، وأن يعكس آمال اللاجئين وطموحاتهم في التحرير والعودة. وكما تظهر رسوماته المتواترة التي وثقتها المراجع الفنية والأرشيفات الثقافية الفلسطينية، فقد كان الفن بالنسبة له أداة للمقاومة الصامتة، لكنها صامتة بصوت هادر لا يمكن إسكاته.
حنظلة: الشاهد الصامت وضمير القضية
إن الحديث عن ناجي العلي لا يكتمل دون ذكر شخصيته الأيقونية، حنظلة. هذا الطفل ذو العشر سنوات، الذي يدير ظهره للعالم، ويشبك يديه خلف ظهره، لم يكن مجرد شخصية كرتونية، بل أصبح ضمير الشعب الفلسطيني ورمزه الأبدي.
ظهر حنظلة لأول مرة عام 1969، ومنذ ذلك الحين، لم يُدر ظهره لأحد، رافضاً أن يُظهر وجهه إلا بعد عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. حنظلة هو الشاهد الصامت على فظائع الاحتلال وجرائمه الممنهجة، ورفض قاطع لأي حلول لا تعيد الفلسطينيين إلى ديارهم. إنه يمثل جيل الأطفال الفلسطينيين الذين عاصروا النكبة واللجوء، وظلوا متمسكين بحق العودة، رافضين التطبيع أو التنازل عن شبر من أرضهم.
حنظلة هو البراءة التي فُقدت، والمستقبل الذي لم يُرسم بعد، والصمود الذي لا يتزعزع. لقد أصبح حنظلة أيقونة عالمية للمقاومة، وشاهداً حياً على أن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية إنسانية لا يمكن أن تموت. في كل رسمة لناجي العلي، كان حنظلة يتجسد، ليس مجرد طفل، بل روح القضية، وحقيقة المعاناة، ولهيب الأمل.
اغتيال فنان الشعب: رصاصات الغدر لا تقتل الفن
في 22 يوليو 1987، أُطلقت رصاصات الغدر على ناجي العلي في لندن، ليرتقي شهيداً بعد أسابيع قليلة قضاها في غيبوبة. لم تكن عملية اغتيال ناجي العلي نهاية لمشروعه الفني، بل كانت تأكيداً على قوة ريشته وتأثيرها العميق.
لقد أدرك قتلة ناجي العلي أن صوته الصادق، وريشته الحرة، كانت أكثر خطراً عليهم من أي سلاح آخر. فالفنان الذي خرج من معاناة اللاجئين، وكرس حياته لفضح الظلم ودعم القضية، أصبح رمزاً لا يمكن إسكاته، حتى بعد رحيله. إن اغتياله لم يكن سوى محاولة يائسة لإسكات صوت الحق، لكنه في الواقع خلّد فنان الشعب وجعل ريشته أكثر إلهاماً.
لقد بقي حنظلة، الطفل الشاهد، يحرس ذكرى ناجي العلي، ويؤكد أن الفن الملتزم هو قوة لا يمكن قهرها. رسومات ناجي العلي، التي انتشرت في الصحف العربية كـ “السفير” و “القبس” وغيرها، وبقيت محفوظة في أرشيفات مثل معهد الدوحة للدراسات ومؤسسة عبد المحسن القطان، تواصل إلهام الأجيال وتثقيف الرأي العام حول جوهر القضية الفلسطينية ودور الفن كوسيلة مقاومة وحفاظ على ثوابت وتاريخ الشعب الفلسطيني.
يظل ناجي العلي أيقونة الفن الملتزم، ورمزاً من رموز المقاومة الفلسطينية. من مخيم عين الحلوة إلى العالمية، استطاع ناجي العلي أن يحفر اسمه ب ريشة من نور في تاريخ الفن المقاوم، وأن يترك لنا إرثاً لا يمحوه الزمن، شاهداً على أن الكلمة والرسم، حين ينبعان من الحق، يصبحان أقوى من الرصاص.
لقد كان فنان الشعب حقاً، صوته كان صوت كل لاجئ، وكل مظلوم، وكل من يحلم بالحرية والعودة.