خشبة تحت الركام: المسرح الغزّي في مواجهة الإبادة
في غزة، حيث يختلط صدى الضحكات ببكاءٍ متقطع، لم يعد المشهد كما كان. الألوان التي كانت تزيّن شوارع المدينة اختفت، وحلّ مكانها الرماد. ورغم ذلك، ظلّ سؤال ملحّ يتردّد: هل للمسرح مكان وسط هذا الركام؟
منذ الانتداب البريطاني، كان المسرح الفلسطيني صوتًا للناس، يروي حكاياتهم ويجسّد ملامح نضالهم، حتى مع النكبة والتشريد. على خشبته وُلدت أعمال تركت بصمتها، مثل مسرحيات سميح القاسم ومعين بسيسو، التي جعلت من الخشبة مساحة مقاومة، وحولت المسرح إلى مرآة تعكس واقع الفلسطينيين الممزق بين الألم والأمل.
واليوم، ورغم حرب الإبادة الجماعية على غزة، ما زال المسرح حاضرًا، يتنفس بأدوات بسيطة، ويقاوم كما يقاوم الناس. تحولت الخيام ومراكز الإيواء إلى مسارح بديلة، وصار الهواء الطلق مكانًا للعروض، فيما ذهب الفنانون إلى الناس بدل أن ينتظروا الجمهور في القاعات. ظهر “مسرح الشارع” و”الحكواتي”، حيث روت النساء والرجال والأطفال قصصهم بأنفسهم، وحاول المسرحيون عبر “مسرح السؤال” أن يحثوا الجمهور على التفكير في حلول وسط الظلام، حتى عبر أبسط الحكايات اليومية.
لكن الاستمرار لم يكن سهلًا. الاحتلال دمّر مسارح غزة تباعًا: من رشاد الشوا الثقافي، إلى مسرح الهلال الأحمر، إلى مسرح هولست، وحتى جمعية الشبان المسيحية التي تحولت إلى مأوى للنازحين. أما الفنانون، فقد وجدوا أنفسهم بين خيار الصمت أو الاستمرار وسط الخوف. بعضهم استشهد، مثل الفنان أحمد الشوا، وبعضهم اعتُقل، فيما فقد آخرون أماكنهم وأدواتهم.
ومع ذلك، ظل المسرح صوتًا للأوجاع، ووسيلة للتنفيس. قدّمت مؤسسات مثل بسمة للثقافة والفنون وأيام المسرح عروضًا للأطفال والنساء، بل حتى مسرح الدمى بالشراكة مع اليونسكو. الأهالي قالوا إن أطفالهم صاروا أقل عنفًا بعد المشاركة في تلك العروض، وكأن المسرح تحوّل إلى علاج جماعي وسط الحرب.
اليوم، يتفق المسرحيون على أن الخشبة لم تمت، لكنها تبحث عن فسحة حياة. بعضهم يرى أن المسرح سينهض بعد الهدنة ليكون أداة للتوثيق وإعادة البناء الثقافي، وآخرون يعتقدون أن الدراما قد تكون البديل الأقرب في زمن الحرب. لكنهم جميعًا يجمعون أن الفن، حتى بأبسط أشكاله، يظل شهادة حيّة على الإبادة، وصوتًا يروي للعالم أن غزة لم تُمحَ.
في النهاية، المسرح في غزة لم يعد مجرد ترف ثقافي. إنه مقاومة، وذاكرة، وعلاج نفسي، ورسالة تقول: وسط الركام ما زال في هذه المدينة حياة، وما زال على خشبتها أمل.