القصيدة التي لا تموت: الشعر الفلسطيني بين النكبة والنار

 من بين الركام في غزة، تتسلل كلماتٌ ليست مجرد حبر على ورق، بل هي شهاداتٌ نابضةٌ بالحياة، وأرواحٌ ترفض الموت والاندثار. إنها قصائد يكتبها شعراء من قلب ما يجري، تذكّر العالم بأن ما يحدث ليس مجرد فصل عابر، بل هو استكمال لمأساة بدأت قبل أكثر من سبعة عقود.

بينما نحيي الذكرى السادسة والسبعين للنكبة، تظل فلسطين بكل آلامها وآمالها حاضرةً في الشعر الفلسطيني، الذي لم يكن يومًا مجرد فنٍّ أو جمالٍ لفظي، بل كان سلاحًا، وأرشيفًا، وذاكرةً حيةً تتناقل الحقيقة من جيلٍ إلى جيل. الشعر هنا هو فعلُ مقاومةٍ بحد ذاته، يوثّق ويصمد ويكشف، مؤكدًا أن القصيدة الفلسطينية لا تموت، تمامًا كالقضية.

لقد بدأت القصيدة الفلسطينية رحلتها شاهدةً على النكبة الكبرى عام 1948، حين اقتُلع شعبٌ من أرضه وشُتّت في المنافي والمخيمات. لم يكن الشعر بمعزلٍ عن هذه الكارثة، بل كان لسان حال المهجرين واللاجئين، يوثّق لحظات الفقد، ويصف مرارة التهجير، ويحافظ على أسماء القرى والمدن التي مُسحت عن الخريطة. شعراء تلك المرحلة، كراشد حسين وكمال ناصر وغيرهما، أسسوا لخطابٍ شعريٍّ مقاومٍ تمسّك بالهوية الفلسطينية، ورفض الذوبان في الشتات، وجعل من حق العودة بوصلةً لا تحيد. كانت القصيدة في الأربعينيات والخمسينيات وثيقةً أولى، تُسجّل الجريمة وتُحاسب مرتكبيها بلغة الوجدان والتاريخ.

كانت هذه القصائد تُتلى في التجمعات والمخيمات، وتنتقل شفاهيًا لتُصبح جزءًا من الموروث الشعبي الذي يحمل عبء الحفاظ على الهوية والذاكرة الوطنية. ومع مرور الزمن وتصاعد وتيرة الاحتلال، تطور مضمون الشعر الفلسطيني دون أن تتغيّر بوصلته. من النكبة إلى النكسة عام 1967، ومن الانتفاضات المتتالية إلى الحصار الخانق اليوم على غزة، ظلّت فلسطين هي الموضوع والغاية.

رموز الشعر الفلسطيني، كالمغفور لهما محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، رسّخوا القصيدة المقاومة كأحد أعمدة النضال الوطني. قصائد مثل “سجّل أنا عربي” لدرويش، أو “إلى المنكوبين في المخيمات” للقاسم، لم تكن مجرد تعابير فنية، بل كانت بياناتٍ بليغةً، تُعلن عن الوجود الفلسطيني وتُقاوم محاولات طمس الهوية وتغييب القضية. هؤلاء الشعراء الكبار، وغيرهم كثير، بنوا جسرًا متينًا بين الماضي والحاضر، تاركين إرثًا عظيمًا للشعراء الجدد.

واليوم، وفي خضم حرب الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة، يبرز الشعر الفلسطيني من جديد كأداةٍ للتوثيق والكشف بامتياز. الشعراء داخل القطاع المحاصر، وفي الضفة الغربية، وفي الشتات، يستخدمون الكلمة لتكون شاهدًا على الجرائم الممنهجة. لا يكتفي هؤلاء الشعراء بالوصف، بل يُسجلون ما يرونه ويختبرونه بصدقٍ مؤلم. نجد قصائد تُوثّق لحظة قصف وتصف الأشلاء، وأخرى تتحدث عن الجوع والعطش، وثالثة تُخلّد أرواح الشهداء.

هذه القصائد، التي تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي، هي بمثابة تقارير حية ومؤثرة تُقدم الرواية الفلسطينية بعيدًا عن أي تضليل. لقد لاحظنا كيف تُصبح هذه القصائد مادةً خبريةً بحد ذاتها، تُترجم وتُعاد مشاركتها على نطاقٍ واسع، لتصل إلى العالم أجمع.

الشعر الفلسطيني، ومنذ النكبة، هو صوت اللاجئ بامتياز. لقد تحولت القصيدة إلى مرآةٍ تعكس حياة المخيم، آلامه وآماله، وتمسّكه بحق العودة إلى الديار التي هُجّر منها. هذه القصائد ليست مجرد تعابير شخصية عن الحنين، بل هي فعلٌ سياسيٌّ وثقافيٌّ يُبقي على قضية اللاجئين حيةً في الوعي. هي تُقدم السردية الفلسطينية عن الاقتلاع، وتُشكّل بذلك موقفًا يُناقض السردية التي تُحاول تبرير الاحتلال.

لا تحتاج القصيدة هنا إلى شعاراتٍ مباشرة، ففي وصف حجرٍ من جدار بيتٍ قديمٍ في يافا، أو زهرة لوزٍ في حديقة عكا، يكمن رفضٌ للاحتلال وتأكيدٌ على الحق التاريخي. في زمن التعتيم الإعلامي على ما يحدث في فلسطين، خاصةً في غزة، يبرز الشعر كأداة إعلامٍ بديلٍ قوية. القصيدة، بطبيعتها الإنسانية والوجدانية، قادرة على اختراق الحواجز والوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.

عندما تُترجم قصيدة كُتبت من داخل غزة وتصف الرعب اليومي بصدقٍ وعمق، فإنها تُحدث تأثيرًا قد يفوق مئات التقارير الجافة. لقد شهدنا خلال ما يجري انتشارًا واسعًا لقصائد فلسطينية تُرجمت إلى لغاتٍ مختلفة ونُشرت عالميًا، لتُصبح نافذةً يرى من خلالها الرأي العام العالمي جزءًا من الحقيقة التي تُحاول آلة الاحتلال إخفاءها. هذا الانتشار العالمي يُعد شهادةً على قوة الشعر كأداة مقاومة تتجاوز الحدود.

إن الشعر الفلسطيني، من النكبة عام 1948 وحتى ما يحدث اليوم في غزة، ظلّ نبضًا حيًا لفلسطين. إنه ليس مجرد مجموعة من القصائد، بل هو مسارٌ نضاليٌّ متواصل، يُوثّق الجرائم، يُحافظ على الهوية، يُعلي صوت اللاجئ، ويُشكّل أداة مقاومةٍ فاعلة. لقد أثبت الشعر الفلسطيني، عبر عقودٍ من الصمود، أنه رفيق الشعب في محنته، وشاهدٌ على تاريخه، وحارسٌ لذاكرته. إنها القصيدة التي لا تموت، لأنها مرتبطةٌ بحياة شعبٍ لا يموت، وبقضيةٍ عادلةٍ لا تموت، وبأرضٍ ترفض أن تستسلم.

كل بيت شعرٍ يُكتب اليوم في غزة هو استكمال لمسيرةٍ بدأت مع النكبة الأولى، وتأكيدٌ على أن شعلة المقاومة، بشقها الفني والثقافي، ستظل متقدةً حتى يتحقق النصر.

Hide picture