العنوان: المسرح.. أحد دعائم الهوية الفلسطينية

**المسرح.. نبض الهوية الفلسطينية ورواية الصمود في وجه الحرب والاحتلال**

يُشكل المسرح في فلسطين، بما يحمله من تاريخ عريق وجذور تمتد في أعماق الأرض والإنسان، شريانًا حيويًا يغذي الروح الوطنية ويصونها في خضم حالة حرب مفتوحة واحتلال يحاول طمس كل ما هو فلسطيني. إنه ليس مجرد خشبة تُقدم عليها الحكايات للمتعة فحسب، بل هو ساحة حقيقية تتنفس لتعبر عن الواقع بكل مرارته وأمله، وتحتضن الذاكرة الجمعية لئلا تضيع، وتمرر عبق التراث من جيل إلى جيل، لتصرخ بالوجود في وجه كل محاولات الإلغاء والاقتلاع.

في مسيرة النضال الفلسطيني التي لا تتوقف، يأخذ المسرح مكانة جوهرية كشكل من أشكال المقاومة، لا بالسلاح وحده، بل بالكلمة والفكرة والصورة. إنه يقف ندًا للرواية التي يحاول الاحتلال فرضها، فيسلط الضوء على الحقيقة الفلسطينية كما هي، بكل ما فيها من تفاصيل إنسانية وسياسية معقدة. من خلال الشخصيات التي تدب فيها الحياة على خشبة المسرح، يستعيد الفلسطينيون تاريخهم المنسي قسرًا، ويبوحون بآمالهم التي لم تمت وآلامهم التي لا تُنسى، ويُجسدون صمودهم الذي بات أسطورة تروى. إن قوة المسرح في قدرته على تحويل الحكايات إلى مشهد حيٍّ ومؤثر، يراه الناس ويسمعونه ويشعرون به في عُمقهم، تجعله أداة لا تُقدّر بثمن في غرس الشعور بالانتماء وتعزيز اللحمة الوطنية.

ويتجلى دور هذا الفن النبيل في حماية الهوية من خلال استلهامه العميق للتراث الفلسطيني بكل ألوانه. تُصبح خشبة المسرح بمثابة مرآة تعكس الأغاني الشعبية التي تغنى بها الأجداد، وتُحيي الرقصات التراثية كالدبكة التي تتردد أصداء دقاتها في الوجدان، وتسرد الحكايات التي حملتها الأجيال شفهيًا عن الأرض التي سُرقت، والقرى التي دُمرت، وشخصيات صنعت التاريخ بصمودها. ويعتمد المسرح الفلسطيني على جمال اللغة العربية الفصحى، ويحتفي أحيانًا باللهجات المحلية ليبقى لسانُ الوطن حيًا ومتداولًا. أما المسرح الغنائي الفلسطيني، فقد نسج خيطًا ذهبيًا يربط بين الأداء الدرامي والغناء التراثي والملحّن الذي يحمل رسالة، ليقدم أعمالاً متكاملة تُعمّق الانتماء وتُرسّخ الهوية، مستعيدًا قصصًا من التاريخ أو الواقع الاجتماعي ببعد وطني عميق يلامس الروح.

لم يولد المسرح الفلسطيني في فراغ، بل نبت ونما في أرضٍ استثنائية تحت ظروف فرضتها حالة الحرب والاحتلال بكل قسوتها. لذا، لم يكن غريبًا أن تتأثر مواضيعه وقضاياه بشكل مباشر بنكبةٍ لا تزال فصولها تُكتب، وتهجيرٍ لم يبرد رماده، وقضية أسرى خلف القضبان، وتحديات حياة يومية تفرضها قيود الاحتلال، وممارساته من حصار خانق وتضييق وهدم لا يتوقف. كثيرًا ما تُقدم الأعمال المسرحية سرديات عن المقاومة التي تولد من رحم المعاناة، والصمود الذي يفاجئ العالم، وتُعرّي ممارسات الاحتلال التي تتجاوز كل القوانين والأخلاق، وتُظهر للعالم أجمع حجم الظلم الواقع على هذا الشعب، مع التأكيد على الحقوق الوطنية التي لا تسقط بالتقادم.

وبالعودة إلى كنوز المراجع الثقافية والإخبارية التي اهتمت بالفن الفلسطيني (كأرشيف مؤسسة عبد المحسن القطان، وصفحات مجلة الدراسات الفلسطينية، وتغطيات منصات إخبارية عزيزة كعربي21 وميدل إيست آي)، نجد قصصًا لا تُحصى تروي هذا الدور الملهم. فمسارح عريقة تحمل تاريخًا في جعبتها، مثل مسرح القصبة في مدينة رام الله، ومسرح الحرية في مخيم جنين الصامد (الذي واجه ويواجه تحديات لا تُصدق واستهدافًا متكررًا يحاول إسكاته)، شكّلت لسنوات طويلة منارات تضيء دروب الثقافة والفن، وقدمت أعمالاً مسرحية جادة تتعمق في قضايا الهوية، ومعنى المقاومة، والحقوق المشروعة. مسرحية “الزمن الموازي” التي أبصرت النور في مسرح القصبة، أو الأعمال التي يخرج بها مسرح الحرية من قلب مخيم جنين ونضاله الأسطوري، ليست مجرد عروض، بل هي أفعال مقاومة بحد ذاتها. ولا ننسى الفرق المسرحية والفنانين الذين يعملون في ظروف تفوق الخيال في قطاع غزة، الذي يشهد الآن حرب إبادة وجرائم وحشية. ورغم تدمير كل شيء، حتى البنى التحتية التي كانت تحتضن الفن والمسرح، إلا أن هناك مبادرات فردية وجماعية، أشخاصٌ يتمسكون بخيط رفيع من الأمل ليُبقوا على شعلة المسرح مشتعلة، ليؤكدوا أن الفن يمكن أن يولد من تحت الركام، كشكل آخر من أشكال الصمود الذي فاق كل التوقعات.

إن سر قوة المسرح الفلسطيني يكمن أيضًا في قدرته الساحرة على إثراء الوعي العام وتوجيه بوصلة الرأي نحو دعم القضية العادلة. فمن خلال العروض التي تجوب المدن والقرى في فلسطين، أو تلك التي تصل إلى جمهور العالم في الخارج، يتعرف الناس على عُمق القضية، ويلمسون إنسانيتها، ويقتنعون بعدالة المطالب الفلسطينية. يُصبح الممثلون سفراء يحملون صوت شعبٍ يعيش تحت وطأة الاحتلال، لكنه متمسك بأرضه، ببيته، وبهويته. كما أن الورش المسرحية والأنشطة التي تُقام للشباب ليست مجرد تدريب على التمثيل، بل هي بناء لجيل واعٍ بتاريخه، قادر على التعبير عن قضاياه بإبداع وفن، ليتعزز دور الفن كأداة حيوية في مسار النضال الطويل.

ومع كل هذا الصمود والإبداع، يواجه المسرح الفلسطيني تحديات جسيمة تفرضها حالة الحرب والاحتلال. هذه التحديات تتجسد في القيود التي يخنق بها الاحتلال حركة الفنانين والفرق المسرحية، ليمنعهم من الوصول إلى بعضهم البعض أو إلى جمهورهم. كما أن الحصول على التمويل اللازم لإنتاج أعمال فنية أصيلة يكاد يكون مهمة مستحيلة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية. والأدهى والأمر هو الاستهداف المباشر للمؤسسات الثقافية والمسرحية، كما حدث ويحدث بشكل مروع في قطاع غزة، حيث تُدمر المراكز الثقافية والمسارح ضمن حرب الإبادة الشاملة. ورغم كل هذه العقبات التي قد تُحبط أي إنسان، يبقى المسرح الفلسطيني شامخًا، يبتكر أشكالاً جديدة للتعبير، ويُصر على أن الإرادة الفنية والثقافية لدى هذا الشعب أقوى من كل جدران القمع وكل محاولات الإلغاء.

في الختام، ليس المسرح في فلسطين مجرد فن؛ إنه نسيج محبوك من المجتمع والثقافة، ودرع واقٍ يحمي الهوية الوطنية من الذوبان، وصوت جهور لا يعرف الصمت في وجه الظلم المتواصل، وأداة قوية وفاعلة في مقاومة حالة الحرب والاحتلال وجرائمه الممنهجة التي تستهدف كل مناحي الحياة. إنه يؤكد للعالم أجمع على حيوية هذا الشعب، وقدرته العجيبة على الصمود والبقاء، وعلى الإبداع حتى يأتي الفجر وينبلج النصر والتحرير.

Hide picture