“طلّت البارودة… والسبع ما طلّ”: حين غنّى الفلاحون للثورة قبل أن يعرفوا معنى النشيد الوطني
في القرى الفلسطينية البعيدة، قبل أن تُعرف الميكروفونات والفضائيات، كانت الأغنية هي المنبر الوحيد، والذاكرة، والسلاح.
ومن بين الأغاني التي بقيت تسكن وجدان الفلسطينيين جيلاً بعد جيل، تخرج أغنية “طلت البارودة والسبع ما طلّ” كصرخةٍ من زمنٍ غابر، حملت بين أبياتها وجع الأرض وكرامة الدم.
أغنية من زمن البارود
وُلدت الأغنية في عشرينيات القرن الماضي، خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، حين بدأ الفلاحون ينخرطون في العمل المسلح دفاعًا عن أرضهم التي صودرت، وعن كرامتهم التي داستها جحافل الغرباء.
في تلك الأيام، لم تكن هناك إذاعات أو تسجيلات، بل كانت النسوة في القرى يطلقن هذا النشيد عند سماع خبر استشهاد أحد “السباع” — وهو اللقب الذي كان يطلق على الثائر الشجاع الذي يحمل السلاح.
كان المشهد يتكرر: تعود البارودة المخضّبة بالدم على ظهر الفرس، بينما يغيب صاحبها إلى الأبد.
فتعلو أصوات النساء:
“طلّت البارودة… والسبع ما طلّ.”
صرخة امتزج فيها الفخر بالحزن، والانتصار بالفقد
السبع الذي غاب ليبقى
“السبع” لم يكن مجرد وصفٍ للشجاعة؛ بل رمزٌ لفكرة البطولة الشعبية.
في كل قرية فلسطينية كان هناك سبع، يختفي في الجبال مع رفاقه، يقاوم بالبارود ما لا يُقاوَم بالكلمات.
وحين يعود السلاح دون صاحبه، كانت الأغنية تتحول إلى مرثية جماعية، تحفظ اسمه دون أن تذكره، وتحوّل الفقد الفردي إلى ذاكرة وطنية.
من الثورة إلى الذاكرة
مع مرور العقود، لم تمت الأغنية.
ردّدها المقاومون في ثورات لاحقة، وغناها الجدّ للأحفاد وهو يروي حكايات الرصاص الأول.
وبينما تغيّرت الألحان والأصوات، بقيت “طلت البارودة” تذكّر الفلسطيني بأن الأرض لا تُروى إلا بالدم والشرف، وأن صوت الأمهات في القرى كان أول نشيد وطني غير معلن.
من التراث إلى الحاضر
اليوم، وبعد مرور أكثر من مئة عام على ولادتها، ما زالت الأغنية تُتداول في الأعراس والمهرجانات والفعاليات الوطنية.
يُعاد أداؤها بصوتٍ جديد، لكن معناها لا يتغيّر:
أن الثورة ليست حكاية سلاح فقط، بل حكاية وفاء.
أن البارودة قد تطلّ، لكن السبع الذي غاب عنها لم يمت، بل بقي حيًّا في ذاكرة الذين يغنون.