عبد الجواد.. آخر نحّاسي القدس

لا بدّ للمارّ في سوق “الخواجات”، في البلدة القديمة للقدس المحتلة، أن يلتفت إلى دكان النحّاس محمد عبد الجواد (47 عاما)، ليس لجمال معروضاته النحاسيّة القديمة فحسب، وإنما لكونه كذلك أحد الدكاكين النادرة، التي ما زالت تفتح أبوابها في تلك السوق المهجورة.

 

ويعتبر عبد الجواد آخرَ نحّاسٍ في مدينة القدس، فلم يبق في المدينة أي محلٍ آخر يختصّ بصناعة الأدوات النحاسيّة أو تبييضها سواه.

 

ورث عبد الجواد تلك الحرفة عن والده، وجدّه، وتربّى في بيته في حارة السعدية، وهو يراقبهما يصنعان الأدوات النحاسية ويبيضانها، فتعلمها وأتقنها.

 

ويعتبر “النحّاس”، وجوده في سوق الخواجات بالذات تحديّا لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، في تفريغ المدينة المحتلة والتضييق على تجارها.

 

ويشير إلى أن أبواب أكثر من عشرين محلا في السوق قد أُغلِقت بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، بسبب ضعف الحركة الشرائية، والضرائب الباهظة التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على أصحابها.

 

ويضيف:” لم يتبق سوى 6 محلات تفتح أبوابها في سوق الخواجات”.

 

ويقول عبد الجواد إنه يسعى من خلال محله إلى إحياء السوق الخاوي من الزبائن.

 

ويضيف:” بقائي هنا لا يعود لأسباب الربح فقط، فصناعة النحاس لا تجلب الكثير من المال هذه الأيام، لكني أحاول إنعاش آخر ما تبقى من إرث النحاسيين في المدينة”.

 

وسوق الخواجات يعود إلى العهد المملوكي في مدينة القدس، ويوازيه سوقيْن شهيرين هما سوق اللحامين وسوق العطارين.

 

وقد أطلق على تلك الأسواق “السوق الثلاثي”، فهي ثلاثة ممرات متوازية في قلب البلدة القديمة.

 

وأطلق اسم سوق “الخواجات”، نظرا لتجار الأقمشة الأجانب، الذين كانوا يعرضون بضاعتهم في تلك السوق.

 

ويعاني سوق الخواجات كبقية أسواق القدس من ضعف الحركة الشرائية، ويشعر المارّ به بالهدوء التام في أغلب ساعات اليوم، ويُرى أصحاب المحلات المتبقية يجلسون على أبوابها دون عمل يذكر.

 

ويلفت عبد الجواد النظر إلى وجود بؤر استيطانية بالقرب من السوق، مما يزيد من المضايقات للتجار.

 

عبد الجواد والنحاسة

 

و”النحاسة”، حرفة يدوية تراثية تقليدية يختصّ صاحبها بصناعة الأدوات النحاسيّة، منها تلك المستخدمة في إعداد الطعام والشراب كالقدور والمواعين، وغير ذلك كالتحف الفنية.

 

وللنحاس مكانته في تلك الصناعات، فهو عنصر فلزيّ، قابل للسحب والطرق والتشكيل، ويتحمل السخونة، و قد كان في زمن عابر المكوّن البارز في تزيين المنازل.

 

ومنذ 15 عاما، ورغم اندثار محلات النحاسة، واختفاء قدور النحاس من مطابخ الدور، ورغم قلة الزبائن وضعف الطلب، قرر عبد الجواد الالتفات إلى “الصنعة التي بيده” كما يقول، والتي تمثل إرث أبيه وجدّه، فخصص وقته لتوسيع معارفه وتطوير مهاراته في النحاسة، إضافة لعمله حارساً في المسجد الأقصى.

 

على طرفي دكانه في سوق الخواجات يعرض عبد الجواد ما جمعه طوال تلك السنوات من قطع نحاسيّة يصل عمر بعضها إلى مئتي عام، كالأواني، والصحون، والمزهريات، والشيشة، ويد الهاون، والثريات، ومكاوي الفحم، والصواني المستخدمة لتزيين الجدران.

 

ويحصل عبد الجواد على تلك القطع من خلال أسواق الخردة ومحلات المقتنيات القديمة في مختلف مدن فلسطين، كما أن بعض العائلات وخاصة عند تعزيل بيوتهم، يأتون له بما ورثوه عن جدّاتهم من أدوات نحاسيّة، ويستبدلونها بما فاضت به سوق الأدوات المنزلية المستوردة.

 

يقول عبد الجواد في حديثه مع وكالة الأناضول، إنه لا يتعامل مع ما يصله من قطع نحاسية كمعاملة التاجر الباحث عن الربح فقط، فلا يحبّ أن تأتيه القطعة ومن ثمّ يبيعها في اليوم التالي، بل يُنشِأُ معها علاقة تتعدى مساحة البيع والشراء.

 

ويشير إلى بعض معروضاته فيقول:” هذه القطعة إيرانية مثلاً، وتلك لم أعرف مصدرها، فقضيت ما يقارب أسبوعين أبحث عن الانترنت عنها حتى عرفت أنها يابانية الأصل”.

 

انشغالات نحاسية

 

وفي ظلّ اندثار استخدام الأدوات النحاسية، فإنّ عمل عبد الجواد اليوم ينحصر في صناعة بعض الأدوات للمطاعم، مثل قوالب الفلافل، فيقول: “أغلب القوالب المستخدمة في تشكيل الفلافل في مطاعم القدس أقوم أنا بصناعتها، منها مثلا ما يأتي على شكل رأس قلب أو نجمة، أو وردة”.

 

يتحدث عبد الجواد بفخر كذلك:” أقوم بتصليح أغلب سخانات القهوة و السحلب في المقاهي الشعبية، كما أصنع “الأهلة”، التي تعتلي مآذن المساجد”.

 

إضافة إلى ذلك، يجمع عبد الجواد مع حرفة النحاسة حرفة تبييض النحاس، والتي عُرِفت تاريخيا كمهنة منفصلة عن النحاسة، وتتضمن تنظيف الأواني النحاسية من الأوساخ والزنجار (صدأ النحاس)، وتغليفها بطبقة من القصدير لحمايتها من المواد السامة.

 

ويقوم عبد الجواد بتبيض بعض الأدوات النحاسية التي ما زالت مستخدمة حتى اليوم، كالقدور الكبيرة أو صحون دقّ الحمص التي يستخدمها جاره في سوق الخواجات “مطعم ادكيدك” الشهير.

 

أما آخر انشغالات عبد الجواد، وأقربها لقلبه، فهي النقش على ألواح النحاس وصناعة اللوحات النحاسية الفنية المكوّنة بالأساس من عبارات مزخرفة، أو آيات قرانية، والتي يجد فيها شغفه وتوافق اهتمامه.

 

وبما أنه الوحيد الصامد في حرفة النحاسة في المدينة المحتلة، زار عبد الجواد دولا عدة للاستفادة من تجاربهم في مهنة النحاسة وتعلّم أساليب جديدة، ومنها الجزائر التي زارها مرتين والتقى بنحاسيها في قسطينة، وذهب كذلك إلى أندونيسيا.

 

كما أن موقع “يوتيوب”، لا يبخل عليه بالأفكار الجديدة، في طَرْق النحاس ونقشه.

 

ويرى عبد الجواد أن المستقبل أمام هذه المهنة ليس مبشرا، وأنها في “أنفاسها الأخيرة” حسب تعبيره، خاصة عند الحديث عن نقش اللوحات الفنية وأدوات الزينة.

 

يقول عبد الجواد:” الحصول على المواد الخام مكلف جدا، فلوح النحاس الذي نحتاج للنقش غالٍ، وبالتالي لا نستطيع المنافسة أمام أسعار البضائع المستوردة”.

 

ولا يغيب عن عبد الجواد الإشارة إلى ضعف تقدير المهارة اليدوية، وميل الناس إلى البضائع الاستهلاكية منخفضة التكاليف.

 

رغم ذلك، ورغم شحّ الزوار، يواظب عبد الجواد على فتح دكانه، ولا ينسى الإشارة إلى كون ذلك محاولة متواضعة لإحياء سوق الخواجات الذي أغلقت أغلبية محلاته بسبب التضييقات الإسرائيلية الاقتصادية.

 

ويتسع طموح عبد الجواد إلى أن ينتج تذكارا مميّزا من النحاس يقتنيه السائح أو الزائر للقدس، “من صميم القدس” كما يقول، يحكي حكايتها، ويحمل رموزها، ويصنع فيها وبأيدي أبنائها.

 

يقول:” عندما تذهب لمصر مثلا تشتري تذكارات من صنع مصري، تحاكي الأهرام مثلاً، وهكذا في كلّ الدول، فلماذا لا يكون لدينا في القدس تذكارات للسياح، تحمل رموز القدس وفلسطين، مثل باب العامود أو باب الخليل أو قبة الصخرة، وتكون كذلك من صنع أبنائها وداخل أسواقها”.

 

تاريخ النحاسة في القدس

 

كان للنحاسين في القدس سوقٌ خاصّةٌ يشتركون فيه مع المُبَيْضين، وهم من يختصون بمهنة تبيض الأدوات النحاسية وتصليحها.

 

وبحسب الباحث في تاريخ القدس بشير بركات، فقد أُنشِئت تلك السوق في العهد المملوكي في أحد مقاطع طريق باب السلسلة إلى الغرب من المسجد الأقصى، وامتدّت من مفترق حارة الشّرف إلى الغرب على مسافة 70 مترا.

 

ويضيف بركات في حديثه لوكالة الأناضول إن تلك السوق انتقلت في أواخر العهد العثماني، تحديدافي العام 1860، إلى المقطع الشمالي من سوق اللحّامين، وسط البلدة القديمة، إلى أن تحوّلت غالبية دكاكينها إلى بيع المواد الغذائية أو التحف والجلود مع احتلال القدس عام 1967.

 

 

وفي كتابه “المفصّل في تاريخ القدس”، تحت عنوان “القدس كما رأيتها في مطلع عام 1947″، يمرّ المؤرخ عارف العارف على سوق النحاسين في ذلك الموقع الذي ذكره بركات، إلى الشمال من سوق اللحامين، وإلى الجنوب من سوق خان الزيت.

 

ومن تاريخ الصناعات النحاسية في القدس، يذكر بركات بأن أبواب المصلى القبلي وأبواب مصلى قبة الصخرة في المسجد الأقصى كانت تُغطى بألواح نحاسية يتم تصنيعها في سوق النحاسين في القدس.

 

ويضيف بركات:” عثرتُ على حُجّة (وثيقة) في سجلات المحكمة تشير إلى أن السلطان سليمان القانوني أمر بإنشاء مصنع للقنابل النحاسية في سوق الدباغة، عام 1557م، وأطلق عليه الطوبخانة”.

 

وقد كانت سوق النحاسين تصنع مختلف القطع النحاسية لاستعمالات متعددة، ومنها الأواني المنزلية كآواني صنع القهوة والقدور للطبيخ، بالإضافة إلى الأسطل والطاسات المستخدمة في الحمامات العامة، واستخدم النحاس كذلك في صناعة ثريات الإنارة، وفي ضرب الأختام والنقود.

 

أما اليوم فلم يتبق في القدس سوى عبد الجواد نحاسا ومُبيَضا يواجه اندثار هذه الحرفة التراثية.

الاناضول

Hide picture